احذروا الحالقة في رمضان
الحمد لله رب العالمين، ألَّف بين قلوب المؤمنين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين..
وبعد:
أحبتي في الله:
انتهى شهر شعبان وها نحن في شهر رمضان
**هذا الشهر الكريم الذي فضله الله على بقية الشهور، وخص لياليه بالفضل المشهور، ووعد فيه بمضاعفة الثواب والأجور،
شهر الصيام والقيام والقرآن والإحسان شهر العفو والحب والوئام،
قال الشاعر:
أتى رمضــان مــزرعة العبــاد * لتطـهير القلــوب من الفســاد.
فــأد حقــوقــه قــولا وفعــلا * وزادك فــاتـخـذه للـمعــاد.
فـمـن زرع الحبوب وماسقـاها * تـأوه نـادمـا يــوم الـحصــاد.
*فلنغتنم هذا الشهر العظيم ولنحرص فيه على جمع الحسنات، ثم بعد ذلك علينا أن نحافظ عليها من الضياع فقد يصوم الواحد منا نهار رمضان ويقوم ليله ويقرأ القرآن ويذكر الله جل وعلا ويتصدق ويفعل من الخير الكثير ولكن للأسف لا يرفع ولا يعرض عمله على الله إنها مصيبة كبرى وطامة عظمى * أتدري لما ذلك؟
إقرأ كلماتي وضعها نصب عينيك فمن باب النصيحة والخوف عليك وعلى أعمالك الطيبة من الضياع أقول لك انتبه لصيامك وصلاتك وقيامكم واحذر أن تجمع حسناتك في كيس مثقوب، أو أن تبني بيتا على أساس من الرمال المتحركة،
أتدري أخي الحبيب ما الذي يجعل أعمالك لا ترفع ولا تعرض على الله جل وعلا ؟
استمع إلى حبيبك صلى الله عليه وسلم وهو يبين ذلك….
فعن أبي هريرة- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم، قال: « تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، فَيَغْفِرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: دعوا (أي أخروا) هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، دعوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا »
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا)..
**ولعل هذين الحديثين من أشد الأحاديث ترهيبا من الهجر, فالمسلم ينبغى عليه أن يعلم أن صلاته وصيامه وكل عمل صالح يعمله يؤخر قبوله حتى ينهي الخصومة مع أخيه المسلم..
“ويؤكد هذا المعني ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: « ثَلَاثَةٌ لَا تُرْفَعُ صَلَاتُهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ شِبْرًا: رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَأَخَوَانِ مُتَصَارِمَانِ ( أي: متخاصمان)..
**فيالها من خسارة فادحة ، ومصيبة عظيمة ، أن لا يرفع للإنسان عمل حتى يصفو قلبه على أخيه المسلم ، فلماذا لا تصفوا النفوس إذاً ،
***ولم ينتهى الأمر على ذلك بل انظر إلى خطر الخصام والتشاحن .
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار» (رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع
أما علمت أخي الحبيب أنه بسبب الخصام والتشاحن حرمت الأمة معرفة وقت أعظم ليلة إنها ليلة القدر التي بين الله جل وعلا فضلها في قوله. (ليلة القدر خير من ألف شهر)
يقول عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، خرج رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ أَصْحَابَهُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَرَجْتُ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ، فَتَلاحَى رَجُلانِ، فَاخْتُلِجَتْ مِنِّي، فَاطْلُبُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، أَوْ تَاسِعَةٍ تَبْقَى، أَوْ خَامِسَةٍ تَبْقَى». في هذه الحادثة أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخبر الصحابة بليلة القدر فتلاحى (أي تنازع وتخاصم) رجلان فرفعت ولعل في رفع علمها خيرا للأمة. ومرادنا من الحادثة اثر الخصام.
**فالتلاحي والخصام خطر عظيم وهو منفر للملائكة وجالب للشياطين؛ فقد روى الإمام أحمد: «أن رجلا شتم أبا بكر والنبيﷺ جالس… يَعْجَبُ ويبتسم، فلما أكثر ردَّ عليه أبو بكر بعض قوله، فغضب النبيﷺ وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددتُّ عليه غضبتَ وقمتَ؟! قالﷺ: إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه ذهب الملك وقعد الشيطان، فلم أكن لأقعد في مجلس مع الشيطان».
ولهذا كله وغيره كان التلاحي والخصام بين المسلمين حراما؛ فعن أبي أيّوب الأنصاريّ- رضي اللّه عنه- أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال: : «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، أخرجه الإمام مالك والبخاري ومسلم
! وتأمل أخي الحبيب في قول النبي صلى الله عليه وسلم (وخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام)
فلم يقل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أن المخطيء يجب عليه أن يبدأ بالسلام, ولكن قال( وخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام) فكن أخي الحبيب خير الرجلين, ولا تعرض أعمالك الصالحة لعدم القبول عند الله تعالى لأجل عرض من الدنيا قليل.
وليكن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الإسوة الحسنة في العفو والصفح وعدم التشاحن والخصام..
ففي قصة الإفك المذكورة في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ ﴾ [النور: ١١]، إلى قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ﴾ [النور: ٢٦]، وهو ما رموا به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، مع صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، وقد أنزل الله عز وجل براءة السيدة عائشة رضي الله عنها مما رماها به أهل الإفك، في الآيات المذكورة.
وكان مِسطح بن أُثاثة ممن تكلَّم في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالإفك المذكور، وكان من المهاجرين وهو فقير، وكانت أمه ابنةَ خالة أبي بكر رضي الله عنه، وكان أبو بكر ينفق عليه؛ لفقره، وقرابته، وهجرته، فلما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها في الآيات المذكورة، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح، فأنزل الله في ذلك: ﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: ٢٢].
**فلما نزلت هذه الآيات قال أبو بكر: بلى، والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا”
***
فانتبه أخي الحبيب واعلم أن الشيطان لك عدو مبين وهو الذي أقسم برب العزة فقال (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) هذا الشيطان يريد لنا الهلاك والخسران من خلال التشاحن والخصام
ففي صحيح مسلم من حديث عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ” أي: بالخصومات والشحناء والقطيعة والحروب والفتن.
! فانتبه لذلك واحذر من تزيينه فقد يزين لك أنك على الحق، وأن الآخر هو المخطئ، وأنه من الضَّعف والهوان أن تتنازَل عن حقِّك، وأنَّ في العَفوِ والتسامحِ ذِلَّةً وخذلان، أقول لك استمع إلى حببيك صلى الله عليه وسلم وهو يبين أن في العفو والسماح عزة ورفعة..
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: « ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله »
أخي الحبيب:
سامِحْ أخاك إذا خلَطْ * منه الإصابةَ بالغلَطْ
وتجافَ عن تعنيفِهِ * إن جار يوما أو قسط
واعلم بأنك إن طَلَبْت * مُهذَّباً رُمْتَ الشَّطَطَ
من ذا الذي ما ساء قطّْ؟ * ومن له الحسنى فقط؟
! فحري بنا ونحن نستقبل شهر رمضان أن نستقبله بقلوب نقية صافية خالية من الغل والحقد والشحناء والخصام
! سئل الصحابي عبدالله بن مسعود: كيف كنتم تسقبلون شهر رمضان قال: ما كان أحدنا يجرؤ أن يستقبل الهلال وفي قلبه مثقال ذرة حقد على أخيه المسلم
******
وفي الختام
اقول احذروا الحالقة فما هي الحالقة؟
!! عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (صَلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ) رواه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح، وفي رواية عنده أيضا: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (.. هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ).
فلنستمع أحبتي في الله إلى أمر نبينا صلى الله عليه وسلم إذ يقول : ( لا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) البخاري ومسلم.
**أسأل الله تعالى أن يبلغنا شهر رمضان وأن يطهر قلوبنا من الغل والحقد والخصام وان يتقبل منا الصيام والقيام.
*****
كتبه :الشيخ / كمال السيد محمود محمد المهدي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية